ترامب وإفريقيا- صفقات سلام وموارد نادرة وتنافس صيني

للوهلة الأولى، قد يتبادر إلى أذهان المراقبين والمهتمين بدراسة الصراعات أن اتفاق السلام الذي تم إبرامه في واشنطن العاصمة بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية في أواخر شهر يونيو من عام 2025، والذي يسعى لإنهاء واحدة من أطول الحروب وأكثرها استنزافًا في القارة الأفريقية، ما هو إلا امتداد وتجسيد للتوجه الذي أعلنه الرئيس ترامب وتبناه بكل قوة في تصفية النزاعات وتسوية الخلافات حول العالم، سعيًا إلى إحلال السلام والاستقرار.
مع التأكيد على الأهمية القصوى لهذا الاتفاق على المستويين الأمني والإنساني، ومع الاعتراف بالجهود القطرية المضنية والجبارة التي بُذلت للوصول إلى هذه اللحظة التاريخية، إلا أن الغوص في أعماق السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القارة السمراء، وتتبع مسار الوصول إلى نقطة التوقيع بين البلدين، سيكشف أن الصورة أكثر تعقيدًا وتشابكًا مما تبدو عليه في ظاهرها، وأن الدوافع والأسباب الكامنة وراء استضافة الولايات المتحدة الأمريكية لحفل التوقيع، تُلخص جوهر الاهتمام الأمريكي بالقارة الأفريقية في عهد الرئيس ترامب في ولايته الرئاسية الجديدة.
فجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجارتها زامبيا، تمثلان نقطة التقاء حيوية للتنافس الشرس بين الولايات المتحدة والصين، لا سيما في مجال الموارد والمعادن النادرة والاستراتيجية، إذ إن الكونغو وحدها تُعد المنتج الأكبر لمعدن الكوبالت، حيث تستحوذ على نسبة 75% من الإنتاج العالمي، وهو المعدن الذي يُستخدم على نطاق واسع في صناعة السيارات الكهربائية، بالإضافة إلى موارد أخرى لا تقل أهمية وثراءً، مثل النحاس واليورانيوم. وقد كان لافتًا ومثيرًا للانتباه ما صرح به الرئيس ترامب عقب التوقيع على الاتفاقية، حين أكد قائلًا: "ستحصل الولايات المتحدة على نصيب وافر من حقوق المعادن في الكونغو".
والأسئلة التي تفرض نفسها هنا بإلحاح: هل سينجح الاتفاق الحالي في إرساء دعائم السلام الدائم، وطي صفحة حرب الثلاثين عامًا بكل ما حملته من مآسٍ وتداعيات؟ خاصة وأن أكثر من 10 اتفاقيات سابقة قد باءت بالفشل الذريع. ولماذا يسود هذا التفاؤل الحذر بنجاح هذه المحاولة تحديدًا؟
الإجابة المباشرة عن هذا التساؤل الجوهري، ترتبط بشكل وثيق بتدخل الولايات المتحدة الأمريكية بثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري في هذا الملف المعقد، مدفوعة برؤية الرئيس ترامب للقارة الأفريقية، والتي تستند إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
- التحول الجذري في طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية، من مجرد تقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية، إلى تعزيز التبادل التجاري والشراكات الاستثمارية المتبادلة.
- التركيز الشديد على المصالح المباشرة التي تعود بالنفع السريع والملموس على الولايات المتحدة، وفي مقدمتها تأمين الحصول على المواد الخام والمعادن الاستراتيجية، ثم محاصرة النفوذ الروسي والصيني المتنامي، والذي امتد وتوسع في القارة السمراء في السنوات الأخيرة.
- أخيرًا، الانشغالات الأمنية والاستراتيجية الأمريكية الخاصة بمحاربة الجماعات الإرهابية المتطرفة، وخاصة في الصومال ودول منطقة الساحل الأفريقي، بالإضافة إلى تأمين مسارات الهجرة غير الشرعية وإغلاق المنافذ التي تستخدمها هذه الشبكات الإجرامية في القارة الأفريقية.
ترامب وأفريقيا: هل من جديد؟
من أجل فهم أعمق وأكثر واقعية للعلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأفريقية خلال فترة ولاية الرئيس ترامب الحالية، يجب إلقاء نظرة فاحصة على عاملين أساسيين: أولًا، تجربة ترامب مع أفريقيا خلال فترة ولايته الأولى. وثانيًا، مشروعه الانتخابي الذي يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط رئيسية:
- التركيز بشكل أساسي على استعادة عظمة الولايات المتحدة الأمريكية، وتبني سياسة تقوم على الانعزالية النسبية، مع التخلي عن نزعة التوسع والهيمنة التي تتبناها تيارات أخرى داخل الحزب الجمهوري.
كما أن ترامب وأنصاره لا يبدون أي حماس يُذكر للمشاريع التي يتبناها الجمهوريون، والتي تسعى إلى "نشر الديمقراطية" والقيم الأمريكية الأخرى في مختلف أنحاء العالم.
فقد ورد في أجندة 2025، التي تم الكشف عنها خلال الحملة الانتخابية وتبنتها جهات نافذة مقربة من ترامب، ما يلي: "يجب على واشنطن أن تتوقف فورًا عن الترويج للسياسات الأمريكية التي تمارس ضغوطًا على الحكومات الأفريقية لاحترام سيادة القانون وحقوق الإنسان والحقوق السياسية والمدنية والديمقراطية، والتي لا تتقبلها الدول الأفريقية، لأنها تشعر أنها تمثل تدخلًا سافرًا في شؤونها الداخلية. ويجب على واشنطن بدلًا من ذلك أن تركز على المشاركة الاقتصادية الفعالة".
- اعتماد سياسة خارجية تقوم على إبرام الصفقات التي تعود بأرباح سريعة على الخزينة الأمريكية المثقلة بالعجز والدين الداخلي المتراكم، وذلك وفقًا لمبدأ "مجهود أقل وعائد أكبر"، مع تقليص المساعدات الأمريكية المقدمة للدول الأفريقية وغيرها، وتحويلها قدر الإمكان إلى استثمارات تجارية واستغلال للموارد المعدنية.
فقد تضمنت أجندة 2025 مقترحات تدعو إلى تحويل جميع منح المساعدات الأجنبية المخصصة للمستفيدين الأفارقة إلى قروض، وإلغاء جميع برامج مساعدات التنمية، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص الأمريكي في القارة الأفريقية.
- الحرص الشديد على تسويق صورة شخصية تجمع بين الحزم والقوة، وفي الوقت نفسه صورة رجل السلام الذي يسعى جاهدًا إلى إخماد الحرائق الدولية وتسوية النزاعات بين الدول المتخاصمة.
وهو ما لخصه ترامب بعبارة موجزة: "السلام عبر القوة"، وفي هذا السياق، يروج أنصاره بأنه يستحق جائزة نوبل للسلام، نظرًا لجهوده المضنية في منع اندلاع حرب نووية بين الهند وباكستان، ودوره المحوري في تخفيف حدة التوتر في الحرب الإسرائيلية الإيرانية.
وبالنظر إلى هذه المرتكزات الأساسية وتقييم اهتمامات ترامب خلال الأشهر القليلة الماضية من ولايته الحالية، والقرارات التي اتخذها بحظر دخول رعايا سبع دول أفريقية، قبل أن يتبعها بتعميم شمل 25 دولة من أصل 36 دولة طالبتها الولايات المتحدة بالتدقيق في إجراءات الهجرة وإلا واجهت مصيرًا مشابهًا لتلك الدول السبع.
يؤكد هذا بما لا يدع مجالًا للشك أن إدارة ترامب لا تولي اهتمامًا كبيرًا بأي ردود فعل محتملة من دول القارة الأفريقية، ويتماشى كل ذلك مع النهج الذي اتبعه في فترة ولايته الأولى مع أفريقيا، والذي اتسم بالإهمال والازدراء.
وبالتالي، لا يبدو أن القارة الأفريقية تمثل أولوية قصوى لإدارته، إلا بقدر ما تمثله من أهمية لسياساتها المتعلقة بالبحث عن الفرص التجارية المتاحة، ومحاصرة النفوذ الروسي والصيني المتزايد، أو بمكافحة الإرهاب والمخاطر الأمنية التي ترى فيها الأجهزة الأمنية الأمريكية تهديدًا حقيقيًا.
يفسر هذا، الدعوة التي وجهها الرئيس دونالد ترامب إلى قمة مصغرة تشارك فيها دول: موريتانيا، والغابون، وغينيا بيساو، وليبيريا، والسنغال، والتي أثارت تساؤلات عديدة حول المعايير التي تم على أساسها اختيار هذه الدول الصغيرة وغير المؤثرة في اقتصاد القارة وسياستها.
لكن التدقيق والتمعن في القواسم المشتركة التي تجمع هذه الدول، يزيل كل هذه التساؤلات، فجميعها تطل على المحيط، بكل ما يمثله ذلك من فرص واعدة وتحديات جمة، كما تتمتع جميعها بموارد طبيعية هائلة غير مستغلة، وخاصة موارد الطاقة والمعادن النادرة، ويمكن أن تكون نموذجًا مثاليًا لسياسته الجديدة في أفريقيا "التجارة بدلًا من المساعدات"، فضلًا عن وقوعها في المجال الجغرافي لتمدد النفوذ الروسي الآخذ في التوسع مؤخرًا.
ابحث عن الصين
قبل شهرين من توقيع اتفاقية السلام بين البلدين، نقلت صحيفة فايننشال تايمز عن مسؤولين من جمهورية الكونغو الديمقراطية، إمكانية التوصل إلى اتفاق مع واشنطن لتأمين استثمارات أمريكية ضخمة في المعادن الحيوية، مقابل دعم الولايات المتحدة الأمريكية لجهود إنهاء الصراع الدائر في شرق البلاد.
وأشارت الصحيفة إلى أن الاتفاق يمنح واشنطن حق الوصول المباشر إلى رواسب الليثيوم والكوبالت والكولتان، وصرح مستشار ترامب، مسعد بولس، قائلًا: "واشنطن تمارس ضغوطًا مكثفة من أجل توقيع اتفاق سلام بين الجانبين هذا الصيف، مصحوبًا باتفاقيات ثنائية للمعادن مع كل من البلدين".
في العام 2007، وقعت الصين اتفاقًا اقتصاديًا كبيرًا مع دولة الكونغو، عُرف باتفاق "المناجم مقابل البنية التحتية"، وبموجب هذا الاتفاق، أصبحت الصين الحاضر الأبرز والأكثر تأثيرًا في قطاع المعادن الكونغولي، حيث تدير حاليًا حوالي 80% من مناجم النحاس المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، وتسيطر على 70% من قطاع التعدين بشكل عام، وعلى 60% من سوق بطاريات السيارات الكهربائية على مستوى العالم.
ومع الأهمية البالغة لمعدن الكوبالت، الذي يدخل في صناعة الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية، تعالج الصين وحدها 80% من هذا المعدن النادر، وفي العام 2024، أعلنت مجموعة سموك الصينية، أكبر منتج للكوبالت في العالم، عن تحقيق أرباح قياسية، حيث قفز صافي الدخل بنسبة 64% ليصل إلى 1.9 مليار دولار.
هذه الأرقام تمثل مصدر قلق كبير للولايات المتحدة الأمريكية، التي ترى في الكونغو نموذجًا فريدًا لتطبيق سياستها الخاصة بالحصول على المعادن النادرة بأسعار تنافسية، وفي الوقت نفسه، التضييق على الصين في أحد أهم ملفات التنافس التجاري والصناعي بينهما.
ولذلك، فقد واصلت الولايات المتحدة مساعيها الحثيثة لإخراج الصين من الكونغو الديمقراطية، عبر ممارسة الضغوط السياسية المكثفة، وتأليب الحكومة الكونغولية عليها للمطالبة بإعادة تقييم الأسس التي قامت عليها اتفاقيات التعدين بين البلدين، وعبر دعم البنية التحتية وإعادة تأهيلها، ومسارات السكك الحديدية لتقليل تأثير الصين في سلاسل التوريد الخاصة بالمواد الخام.
وفي العام 2022، نشرت (أويل برايس) الأمريكية تقريرًا أشارت فيه إلى أن الولايات المتحدة تعزز جهودها الرامية إلى عزل الصين في أفريقيا، وعرقلة حصولها على أشباه الموصلات المتقدمة، كما تعمل واشنطن أيضًا على السيطرة الكاملة على مصادر المعادن المستخدمة في التقنية الحديثة في أفريقيا، وخاصة الكونغو الديمقراطية".
ومما يثير الاهتمام هنا، هو إعلان شركة (كوبولد ميتالز) الأمريكية أنها ستوسع نطاق عملياتها في الكونغو الديمقراطية، بعدما قامت بالفعل بشراء حصة للتعدين من شركة أسترالية هناك، وتضم قائمة المساهمين في شركة كوبولد ميتالز مجموعة من الشركات الكبرى ورجال الأعمال البارزين الذين قدموا دعمًا كبيرًا لحملة ترامب الانتخابية.
حرب السودان في الواجهة
في ظل النشوة العارمة التي سيطرت على فريق ترامب بعد توقيع اتفاق السلام بين رواندا والكونغو، صرح مستشاره مسعد بولس، بأن وزير الخارجية الأمريكي، مارك روبيو، سيستضيف اجتماعًا رفيع المستوى يضم وزراء اللجنة الرباعية التي تتألف من السعودية والإمارات ومصر والولايات المتحدة، لبحث الأوضاع المتدهورة في السودان، وهو الأمر الذي أكد عليه ترامب نفسه في اجتماعه مع القادة الأفارقة في واشنطن.
يأتي هذا الاهتمام المتجدد بالملف السوداني، بعد فترة طويلة من الإهمال والتركيز من جانب إدارة الرئيس ترامب على ملفات أخرى أكثر إلحاحًا في منطقة الشرق الأوسط والحرب الروسية الأوكرانية، ومن خلال متابعة التحركات الدبلوماسية التي جرت في الفترة الأخيرة، والتي من بينها زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، لجمهورية مصر العربية، وتنشيط تحالف "صمود" الذي يقوده الدكتور عبد الله حمدوك، يبدو أن هناك مساعي إقليمية ودولية تُبذل لبلورة مبادرة شاملة لإحياء المفاوضات التي توقفت لفترة طويلة تحت مظلة المبادرة الأمريكية السعودية في جدة.
ولا يزال من السابق لأوانه الجزم بنجاح اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا، إذ إنه على الرغم من الدعم القوي الذي يحظى به من جانب دولة كبرى مثل الولايات المتحدة، فإن التحديات التي تحيط بالاتفاق وأطرافه ما زالت قائمة وصعبة للغاية، خاصة إذا علمنا أن هناك مناطق حيوية واسعة تقع خارج سيطرة الدولتين أو الجماعات المتحالفة معهما.
كما أن انعدام الثقة العميق بين الدولتين، نتيجة الصراع الطويل والمرير، قد لا يوفر البيئة المناسبة للتطبيق السلس لبنود الاتفاق، وخاصة تلك المتعلقة بجمع الأسلحة وتسريح الجماعات المسلحة المتناثرة.
ومع كل تلك التحديات، فإن الترحيب الواسع الذي قوبل به الاتفاق على المستويين الإقليمي والدولي، سيوفر إرادة سياسية قوية لمحاولة الحفاظ على الاستقرار في المنطقة، ومنع عودتها إلى دائرة العنف والصراعات مرة أخرى.
ويمكننا القول، إن إدارة الرئيس ترامب تحاول في ولايتها الرئاسية الجديدة، تحويل القارة الأفريقية من مجرد مكان يائس ومهمَل، كما كان الوضع في فترتها الأولى، إلى فرصة ذهبية تسعى الولايات المتحدة إلى الاستفادة منها بأقصى قدر ممكن.
وتلخص الطريقة التي تم بها دعوة خمسة من رؤساء الدول الأفريقية إلى البيت الأبيض، النهج الأمريكي الجديد في التعامل مع القارة، وهو تعظيم الفوائد والمصالح الأمريكية في القارة، دون الالتزام بتقديم أي مساعدات مالية أو اقتصادية كبيرة، أو فرض أي شروط سياسية تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، كما كان يحدث في السابق.
وستتحدد التدخلات الأمريكية في كافة النزاعات والصراعات الأفريقية، بناءً على هذا النهج الجديد، الذي يمكن تلخيصه تحت شعار: "التجارة بدلًا من المساعدات"، وإلى جانب التجارة، فإن للولايات المتحدة مصالحها وأهدافها الاستراتيجية التي لا يمكن التنازل عنها، باعتبارها قوة دولية عظمى تسعى جاهدة للحفاظ على نفوذها وريادتها العالمية.